الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله
وآله وكافة المرسلين وعباده الصالحين
أخي الكريم الدكتور أحمد عمرو هناك سؤال جوهري مطروح على الساحة العلمية الاسلامية وعلى منابر أهل العلم وهو كالآتي : هل
فهمنا القرآن حق فهمه ؟ وهو سؤال يستحق النظر والاعتبار من المسلمين ، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟!)) قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟! فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ؛ الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا .
فزوال العلم يكون بعدم وجود من يقوم به، ويفهمه حق فهمه، وهو ذهاب أوعيته، ويكون بعدم العمل به، فمن لم يعمل بما علم فلا فائدة في علمه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن العلم يرتفع من الناس مع أن أصله موجود لكن لما لم يستفد الناس منه ويفهموه حق فهمه كان وجوده وعدمه سواء.
قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مدكر ) الآية ، فهذا القرآن العظيم قد سهل الله ألفاظه للحفظ والأداء ومعانيه للفهم والعلم؛ لأنه أحسن الكلام لفظًا وأصدقه معنى وأبينه تفسيرًا فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهله عليه ، وفهم القرآن وتدبره ليس مقصورًا على العلماء بل كل واحد لا بد أن يأخذ حظه من القرآن بحسب ما ييسره الله له وبحسب ما معه من الفهم والعلم والإدراك ، فالله تبارك وتعالى دعا عباده كلهم إلى تدبر القرآن وفهمه ولم يخص طائفة بذلك دون طائفة، ولو كان فهم القرآن وتدبره مقتصرًا على فئة من الناس لكان نفع القرآن محصورًا عليهم ، قال تعالى (فإنما يسرناه بلسانك لعلم يتذكرون) الآية ، ويقول سبحانه (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ) الآية .
فلما نتأمل القرآن ماذا نجد ؟ نجد ملكا كبيرا و نجد ملكًا له الملك كله وله الحمد كله مجاري الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردها إليه لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته عالمًا بما في نفوس عبيده، مطلعًا على أسرارهم وعلانيتهم منفردًا بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويقدر ويقضي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، كما أن في القرآن من الكنوز والأسرار والمعارف والعلوم ما يختص به أهل العلم كل بحسب درجة ايمانه ويقينه ، والوقوع في الخطأ عند تدبر القرآن وفهمه وارد فإن الإنسان قد يفهم من الكلام معنى عامًا ويكون المقصود ما هو أخص من ذلك، وقد يفهم منه معنى آخر غير المراد منه ، فقد يكون الخطأ بسبب تقصير في النظر والتأمل ومعرفة ما يجب معرفته أو بسبب هوى في النفس فإن بعض الناس يكون في نفسه معنى المعاني أو يعتقد شيئًا من الاعتقاد ثم يطلب ما يدل عليه من القرآن فيفهم الآية على غير المقصود منها لتوافق ما نفسه واعتقاده والواجب على المسلم أن يكون همه طلب معرفة مراد الله تعالى ومقصوده ولا يكون همه البحث عما يوافق ما في نفسه فإن الفهم الصحيح يمده حسن القصد وتحري الحق ، وقد ذم الله من يتمسك ببعض الآيات دون بعض أو يأخذ المتشابهات ويدع المحكمات ، فقال تعالى: (أفتأمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) الآية ، وقال: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) الآية ، وهذا يعني أن آيات الله تعالى تشد بعضها بعضا وتفسر بعضها بعضا وهي متكاملة في بيانها الحق و فيما ترشد غاياتها ومقاصدها وهي البلوغ الى خير المقاصد بما يرضي الله ، والنفوس الخيرة انما تتهذب على هذا المعنى الحق في توجهاتها صدقا بمحبتها وبمعرفتها الحق بقوله تعالى ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) الآية ،
ولعل أن هناك آية لم تغب عنا في هذا السياق الذي نحن بصدده عند قوله تعالى في محكم ذكره ( لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ) الآية ، فكتاب الله تعالى هو في المقام الأول (هدى للمتقين ) الآية ، يبصرهم الله ويعلمهم آياته بسعيهم الصادق ، ونحن لما نقرأ قوله تعالى ( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) * ( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) الآيتان ، نسعى جاهدين لفهمها وتدبر معانيها وما يقصد كلام الله في هاتان الآيتان فهو سبحانه لم يدّخرهم إرشاداً أو نصحاً بواسطة الرُّسُل ودعاة الخير ومُلقّنيه من أتباع الرسل، وهم أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فمن الناس مهتد وكثير منهم فَاسِقُونَ ولو شاء لَخلق العقولَ البشرية على إلهام متّحد فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت ذلك لأنه يدعو الى دار السلام وابتغاء واتباع رضوانه بإقامة مراد الله تعالى ونيل رضوانه من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فلو لم يخلقهم كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم، فلا جرم أنّ الله خلق البشر على نظام من شأنه نشوء الاختلاف بينهم فالله تعالى لمّا خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله
تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) الآية ، وقال تعالى (وما كان النّاس إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا ) الآية ، ولما كان الاختلاف اختلافا في الدّين وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ورد الاستثناء المثير وفيه اشارة واضحة لمن هم ثابثون على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله تعالى ( إلاّ من رحم ربك ) الآية ، أي فعصمهم من الاختلاف ، ولمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً بها كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم (ولذلك خلقهم ) الآية ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى منها قولُه تعالى :
( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) الآية ،
وكذلك فالناس في مدارج الارتقاء والمعرفة مراتب فتتميز بذلك قلوب الناس وما وعت بادراكاتها الفطرية السليمة ، كما أن الحق
بين في كتاب الله العزيز للاسترشاد الى الحق ، فسبحان من له الحكمة البالغة والمتعالية لهداية الناس الى خيرهم وصلاحهم باتباع سبل الهدى والرضوان فيسترشدوا بذلك الى أصلح الأمور وأقومها ويفوزوا فوزا عظيما .